قصة أويس القرني مع والدته: دروس في البر والتضحية
يعتبر أويس القرني واحداً من أبرز الشخصيات التي نالت محبة وتقدير الصحابة والتابعين، بل وخلد ذكره في تاريخ الإسلام بفضل تضحياته الكبيرة ودرجة البر العميقة التي جسدها تجاه والدته. لقد امتازت قصته بالعبر والدروس التي تنير لنا طرقات التضحية والعطاء بلا حدود، وهو ما يجعله واحداً من أشهر وأحب الأسماء في التاريخ الإسلامي. ورغم قلة المعلومات التفصيلية التي توردها المصادر التاريخية عن حياته، إلا أن قصته مع والدته تعكس قيم الإنسانية والتفاني في خدمة الأم وحقها، حتى ولو كان ذلك على حساب بعض رغباته الشخصية.
التمهيد للحكاية
أويس القرني هو أحد التابعين، وُلد في اليمن وكان من أسرة بسيطة ذات حالٍ متواضع. وعلى الرغم من أنه لم يُلقَ الضوء على حياته قبل أن يلقى الصحابة، إلا أن قصة بره بوالدته تسببت في إشادة كبيرة به، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدث عنه في عدة أحاديث. لكن، قبل أن ندخل في تفاصيل هذه القصة، نحتاج إلى إلقاء الضوء على بعض السمات التي اتسم بها هذا الرجل العظيم.
الرباط الروحي مع والدته
كان أويس رجلاً صالحاً وزاهداً في الدنيا، يتميز بحب الله ورغبة في نيل مرضاته. ومن خلال هذه الرغبة العميقة في الحصول على رضا الله، اكتسب أويس محبة النبي صلى الله عليه وسلم، رغم أنه لم يرَ النبي وجهاً لوجه. لكن لسببٍ ما، كانت هناك رابطة روحية قوية بينه وبين النبي، هذه الرابطة التي تسببت في أن يصبح اسمه أحد الأسماء اللامعة في السجل التاريخي للإسلام.
أحد الأسباب الرئيسية لشهرة أويس هي حكاية بره بوالدته، التي كانت أكثر من مجرد تقليد لواجب ديني، بل كانت تجسيداً حقيقياً للوفاء والإيثار. سنشاهد في هذه القصة كيف أن أويس اختار أن يضع رضا أمه فوق رغباته الشخصية، وهذا هو السبب الرئيسي الذي دفع الصحابة بعد أن سمعوا عنه إلى أن يذكروا اسمه ويشيدوا به عند النبي صلى الله عليه وسلم.
بر أويس بوالدته
كانت والدته – كما ورد في بعض الروايات – امرأة طاعنة في السن، وكان أويس يتحمل عبء رعايتها وعنايتها، لا سيما عندما كانت تعاني من مرض شديد. وُصف أويس بأنه كان يحب أمه حباً جماً، وكان يراها مصدر قوته وإيمانه. لم يكن في نيته أن يغادرها أو يتركها حتى لو كان ذلك يعني أن يفوت عليه رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان يتمنى أن يلتقي به.
ورغم أن أويس كان يرغب بشدة في لقاء النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن هذه الرغبة لم تكن تعني له أكثر من رغبته في إرضاء والدته. فقد كانت أمه في حالة صحية سيئة، ووجوده بجانبها كان بالنسبة له واجباً عظيماً لا يمكن التنازل عنه. وبهذا اتخذ أويس قراراً عظيماً، حينما بقي إلى جانب والدته ولم يذهب إلى المدينة المنورة بحثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ولو كانت تلك الفرصة قد تكون هي الوحيدة.
ورغم هذا التضحية التي أبدعها أويس، كان قلبه مليئاً بالأمل في أن ينال شرف لقاء النبي، لكن التحدي الأكبر كان أن يقيم في مكان بعيد عن المدينة، حيث لم يكن لديه الفرصة للاحتكاك بالصحابة أو التواجد في مكة أو المدينة بشكل دائم. فكان هذا بمثابة اختبار عظيم له في الصبر والاحتساب.
قصة لقائه مع النبي صلى الله عليه وسلم
تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن أويس في عدة أحاديث، مشيراً إلى أنه كان من أفضل التابعين الذين لم يحظوا بشرف لقاءه. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “يأتيكم أويس بن عامر معتمراً من مراد، كان به برص فدعا الله فشفي، إلا موضع درهم، وكان له أم عظيمة البر، فأراد أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبقي عند أمه لا يتركها، وقال: يا أماه، إن كان لي حاجة في الخروج، فقالت له: لا تخرج حتى يأذن لك الله، ثم سمعت أنه في مكة أو المدينة، فذهب إلى الصحابة وأخبرهم بالخبر، فأوصاه الصحابة بأن يدعو له النبي”.
إن هذا الحديث يظهر بوضوح مدى التقدير الذي كان يكنه الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ولأويس القرني بشكل خاص، حيث كانوا يعتقدون أن أويس كان أحد القلة الذين كانوا قادرين على أن ينالوا شرف اللقاء في السماء بسبب إخلاصه. وهذا يثبت أن التضحية والعطاء قد لا يحتاجان بالضرورة إلى التواجد الجسدي في مكان معين، بل يكفي أن تكون النية طاهرة وأن يكون الفعل مبنيًا على الإيمان والبر.
أويس القرني في نظر الصحابة
على الرغم من أن أويس القرني لم يُلقَ به إلى المدينة المنورة ليلتقي بالنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن الصحابة كانوا يتحدثون عنه كثيراً بعد أن سمعوا قصته وبره بأمه. كان الصحابة يعتبرونه أحد أبر الناس في هذا المجال، ورغم ذلك لم يكن يطمع في الشهرة أو في مديح الناس، بل كان يحرص على أن يبقى بعيداً عن الأضواء وأن يستمر في تربية نفسه على الإخلاص والتقوى. وُصف أويس بأنه كان يقيم في اليمن في مكانٍ ناءٍ، ويكاد يذهب إليه الزوار ليشاهدوا آثار إيمانه القوي بوالدته.
وكان الصحابة يتوسلون إلى الله في أوقات الأزمات ويقولون: “اللهم ارحم أويساً”، بسبب ما كان يفعله من أعمال صادقة وخالصة لوجه الله. ورغم أن أويساً قد بقي بعيداً عن المشهد الاجتماعي في زمنه، إلا أن هذه العزلة كانت في الحقيقة تعبيراً عن إخلاصه الزائد لوالدته ولله عز وجل.
العبَر من قصة أويس القرني
-
البر بالوالدين: بر أويس بوالدته يعد درسًا عظيمًا في كيفية احترام وتقدير حقوق الوالدين، والقيام بواجباتهما على أكمل وجه دون أن ينتظر مقابلًا.
-
التضحية: يمكننا أن نرى في شخصية أويس القرني كيف أن التضحية بالذات من أجل الآخرين هي إحدى أعلى درجات الفضل، حيث يمكن للإنسان أن يتخلى عن بعض رغباته الشخصية إذا كان ذلك سيعود بالنفع على الآخرين، خاصة على الوالدين.
-
الإخلاص لله: أويس كان رجلًا صالحًا في كل ما يفعله. لم يكن يبحث عن الشهرة أو المديح، بل كان همه الأوحد هو رضا الله.
-
القيمة الروحية للإنسان: إن القيم الروحية التي حملها أويس القرني جعلته محط إعجاب وتقدير النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، حيث اعتبروه من أفضل التابعين رغم أنه لم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم.
